فصل: مسألة المحارب إذا تاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة المحارب إذا تاب:

ومن كتاب أوله قراض ثم مساقات:
وسئل عن المحارب إذا تاب ونزع وظهر لجيرانه وجاء إلى المسجد أترى عليه شيئا أو أحب إليك أن يأتي السلطان؟ قال: بل أحب إلي أن يأتي السلطان.
قال محمد بن رشد: قوله أحب إلي أن يأتي السلطان يدل على أنه ليس بواجب عليه، وأنه إن ترك ما هو عليه ونزع منه وظهر بجيرانه وجاء إلى المسجد فهي توبة شرعية من إقامة حد الحرابة عليه، وإن لم يأت الإمام، وقد اختلف في صفة التوبة التي تقبل منه وتسقط عنه حد الحرابة على ثلاثة أقوال، أحدها: أنها تصح بأحد الوجهين، إما بأن يترك ما هو عليه ويظهر لجيرانه ويأتي إلى المسجد معهم، وإما بأن يلقي سلاحه ويأتي الإمام، وهو مذهب ابن القاسم، والقول الثاني: أن توبته لا تقبل منه إلا بالإتيان إلى السلطان، فإن لم يأت السلطان وترك ما هو عليه وظهر لجيرانه وشاهد الصلوات معهم لم ينتفع بذلك، وأقام الإمام عليه الحد، وهو قول ابن الماجشون، والقول الثالث: عكس هذا القول، أن توبته لا تقبل منه إلا بترك ما هو عليه، ويظهر لجيرانه ويشاهد الصلوات معهم، فإن لم يفعل ذلك وألقى سلاحه وأتى الإمام أقام عليه الحد، فإن نزع وترك ما هو عليه وظهر لجيرانه وجاء المسجد ثم أتى الإمام بعد ذلك قبل أن يظهر عليه برئ من الحد بإجماع، وقد اختلف فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال، أحدها: أنه لا يسقط عنه إلا حد الحرابة خاصة، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الناس من الدماء والأموال، فيضمن الأموال ويكون لأولياء المقتول القصاص منه إن أحبوا، والثاني: أنها تسقط عنه حقوق الحرابة وحقوق الله تعالى من الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولا يسقط عنه ما سوى ذلك من الدماء والأموال، والثالث: أنها تسقط عنه حد الحرابة وحقوق الله والأموال، إلا أن يوجد من ذلك شيء بعينه فيرد إلى أهله، ولا تسقط عنه الدماء، فيكون لأولياء المقتول القصاص، والرابع: أنها تسقط عنه كل شيء من الحدود والدماء والأموال، إلا أن يوجد منها شيء بعينه فيرد إلى أهله، وبالله التوفيق.

.مسألة يأخذ الرجل في الليل فيكابره على ثوبه فينتزعه إياه:

ومن كتاب الحدود:
وسئل عن الرجل يلقى الرجل بعد العشاء، أو في السحر في الخلوة، فيبتزه ثوبه حتى ينتزعه منه، أترى عليه قطعا؟ قال: لا أرى عليه قطعا حتى يكون محاربا أو لصا، فأما الذي يأخذ الرجل في الليل فيكابره على ثوبه فينتزعه إياه، فلا أرى عليه قطعا قد كان عندك حديثا هاهنا، ربما اتبع الرجل في المسجد، فانتزع ثوبه عن ظهره.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن هذا إنما هو مختلس ليس بسارق فيقطع، ولا محارب فيحد حد الحرابة؛ لأن السارق هو الذي يأخذ المتاع من حرزه، والمحارب هو الذي يخرج على الناس ليقطع عليهم الطريق، ويأخذ منهم أموالهم بسلاح، أو بغير سلاح خارج المصر باتفاق، أو داخل المصر على اختلاف.

.مسألة به لمم فقيل له إن شئت أن نقتل صاحبك قتلناه:

ومن كتاب الأقضية:
وسئل عن رجل به لمم، فقيل له: إن شئت أن نقتل صاحبك قتلناه، فقال له بعض من عندنا: لا تفعل، اصبر واتق الله، وقال له بعضهم: اقتله فإنما هو مثل اللص يعرض يريد مالك فاقتله، فقال: إن أعظمهم عندي جرما الذي مثله باللص، قيل: فما رأيك؟ قال: لا علم لي بهذا، هذا من الطب.
من سماع موسى من ابن القاسم قال العتبي: حدثنا موسى بن معاوية الصمادحي، قال:
حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه علي بن حسين قال: وجدنا صحيفة مقرونة مع قائم سيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أشد الناس عذابا القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن جحد نعمة مولاه، فقد كفر بما أنزل الله، ومن آوى محدثا فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل.
قال محمد بن رشد: قوله: به لمم، أي خبل وصرع، وبه جنون من مس الشيطان، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، لا يقوم أكلة الربا في الآخرة إلا كما يقوم في الدنيا الذي يصيبه الخبل والصرع من الجنون، وقوله: وقيل له: إن شئت أن تقتل صاحبك قتلناه هو من كذب الذين يعالجون المجانين ومخاريقهم الذين يزعمون أنهم يقتلون بكلامهم وعزائمهم الشيطان الذي يصرع المجنون ويسجنونه إذا شاءوا ويعاقبونه بما شاءوا، وذلك من خرق العادة الذي خص الله به سليمان عَلَيْهِ السَّلَامُ، بإجابته دعوته في قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ} [ص: 35] الآية.
وقد جاء في الصحيح عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «اعترض لي الشيطان في مصلاي هذا، فأخذته بحلقه فخنقته حتى إني لأحد برد لسانه على ظهر كفي، ولولا دعوة لأخي سليمان قبلي لأصبح مربوطا تنظرون إليه» فإذا لم يقدر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ على ربطه من أجل دعوة أخيه سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] فأحرى أن لا يقدر الذي يعالج المجانين على قتل الشيطان بالكلام دون أن يراه، أو يباشر قتله بما أجرى الله العادة من أنه يقتل به الأحياء، فإذا كان قتله إياه من المستحيل المحتم الذي لا يدخل تحت قدرته، لم يصح أن يقال ذلك جائز كما قاله الذي مثله باللص، فأنكر عليه قوله مالك إلا أن ذلك لا يجوز، كما ذهب إليه العتبي بدليل إدخاله على ذلك الحديث الذي ذكره من سماع موسى.
والخبل والصرع والتخبط الذي يعتري المجنون مرض من الأمراض يصيبه من وسوسة الشيطان إياه وتفزيعه له، وترويعه إياه بما يسوله له، ويلقيه في نفسه؛ إذ لا يقدر له على أكثر من الوسوسة التي أمر الله بالاستعاذة منها في سورة الناس، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحمد لله الذي لم يقدر منكم إلا على الوسوسة» وقال: «إن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل وكأ ولا يكشف أما» ولكون ما يصيب المجنون من الصرع من الأمراض، قال مالك في هذه الرواية: لا أعلم في هذا من الطب، يريد أن الطبيب هو الذي يداوي الأمراض، ويعالج الأدواء بما أنزل الله لها من الدواء، لا هؤلاء الذين يكذبون فيما يزعمون من قتلهم الشيطان، وبالله التوفيق.

.مسألة اشترى جارية مسلمة ولما وجدت معه قال أنا مسلم ثم علم أنه نصراني:

ومن سماع ابن دينار من ابن القاسم وسئل عن نصراني اشترى جارية مسلمة، ولما وجدت معه قال: أنا مسلم، ثم علم أنه نصراني، وقال: أنا نصراني، وإنما قلت: أنا مسلم لمكانها، قال: يؤدب، قيل له: أيبلغ به السبعين؟ قال: الأدب في هذا دون ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما رأى عليه الأدب في تملكه المسلمة، وعذره في قوله: أنا مسلم، لما خاف العقوبة على اشترائه المسلمة بصدقه في ذلك، ولم يجعل قوله: أنا مسلم، إسلاما يراه بالرجوع عنه مرتدا، وهذا مثل ما في رسم الأقضية، من سماع يحيى بعد هذا، من قول ابن القاسم خلاف قول أشهب: إنه لا عذر له في مثل هذا، ويقتل إن لم يرجع إلى الإيمان، وبالله التوفيق.

.مسألة النصراني واليهودي يتزندق:

ومن كتاب بع ولا نقصان عليك:
قال في النصراني يوجد على الزندقة قال: شرك وزندقته.
قال محمد بن رشد: قد قيل في النصراني واليهودي يتزندق: إنه يقتل؛ لأنه خرج من ذمة إلى غير ذمة، وأنه إن أسلم يقتل كالمسلم يتزندق ثم يتوب؛ أنه يقتل ولا تقبل توبته، روي ذلك عن ابن الماجشون وبعض الأندلسيين على ما حكى أبو بكري بن محمد، وذلك ظاهر في المعنى؛ إذ ليس للزنديق ذمة، إذ لا يصح أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنها إنما تؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن، ومن المجوس بالسنة، وفي سماع أصبغ بعد هذا في الساحر من أهل الذمة، إذا عثر عليه أنه يقتل إن لم يسلم، والسحر بمنزلة الزندقة، فيتحصل في النصراني يتزندق ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يترك وزندقته. والثاني: أنه يقتل وإن أسلم. والثالث: أنه يقتل إلا أن يسلم، وأما الزنادقة من المسلمين فالحكم فيهم أن يقتلوا من غير استتابة، بخلاف المرتدين، واختلف في ميراث من تزندق من المسلمين يقتل على زندقته، هل يكون ميراثه لجماعة المسلمين، أو لورثته من المسلمين؟ وكذلك يختلف في ميراث من تزندق من النصارى واليهود، فقتل على زندقته على قول من يوجب عليه القتل، هل يكون ميراثه لجماعة المسلمين، أو لورثته من أهل الدين الذي كان عليه.

.مسألة المرتد يجرح أو يقتل في ارتداده ثم يسلم:

ومن كتاب لم يدرك:
وسئل عن المرتد يقتل في ارتداده نصرانيا أو يجرحه، قال: إن أسلم لم يقتل به، ولم يستقد منه في جرح؛ لأنه ليس على دين يقر عليه، وحاله في ارتداده في القتل والجراح إن أسلم حال المسلم إن جرح مسلما اقتص منه، وإن قتل نصرانيا لم يقتل به، ولم يستقد منه، قال عيسى: إن ثبت على ارتداده حتى قتل، فالقتل يأتي على ذلك كله.
قال محمد بن رشد: اختلف قول ابن القاسم في المرتد يجرح أو يقتل في ارتداده ثم يسلم، فمرة نظر إلى حاله يوم الحكم في القود والدية، ومرة نظر إلى حاله فيهما يوم الجناية، ومرة فرق بين الدية والقود، فنظر إلى القود يوم الفعل، وإلى الدية يوم الحكم، فعلى قوله الذي نظر إلى حاله يوم الحكم في القود والدية قال: إن قتل مسلما قتل به، وإن جرحه اقتص منه، وإن قتل نصرانيا أو جرحه، لم يقد منه في القتل، ولا اقتص منه في الجرح؛ إذ لا يقتل المسلم بالكافر، ولا يقتص له منه في الجرح، وكانت الدية في ذلك في ماله، وإن كان القتل خطأ كانت الدية على العاقلة؛ لأنه مسلم يوم الحكم له عاقلة تعقل عنه جناياته، وهو قوله في هذه الرواية، وفي رسم العتق بعد هذا من هذا السماع، وعلى القول الذي نظر إلى حاله يوم الفعل في القود والدية يقاد منه إن قتل مسلما أو كافرا؛ لأنه كان كافرا يوم الفعل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم، وإن جرح نصرانيا عمدا اقتص منه، وإن جرح مسلما عمدا جرى ذلك على الاختلاف في النصراني يجرح المسلم حسبما مضى القول فيه في أول سماع أشهب، من كتاب الجنايات.
وإن قتل مسلما أو نصرانيا خطأ كانت الدية على المسلمين؛ لأنهم ورثته يوم الجناية، ولا عاقلة له يومئذ، وهو قول ابن القاسم، في رسم الصلاة، من سماع يحيى بعد هذا أنه إن قتل هو خطأ، ودي عنه من بيت مال المسلمين، وعلى هذا القياس يجري حكم جناياته على القول الثالث الذي فرق فيه بين القود والدية، ولا اختلاف فيما قاله عيسى من أن القتل يأتي على ذلك كله إن ثبت على ارتداده حتى يقتل، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار:
قال ابن القاسم في المرتد إذا تزوج في ارتداده، ثم قتل، وقد دخل بها، فإني أرى أن تعاظ بمسيسه إياها، وليس لها صداق ولا ميراث.
قال محمد بن رشد: إنما لم يوجب لها الصداق، وإن دخل بها؛ لأنه رأى المال، والله أعلم، قد وجب لجماعة المسلمين بارتداده إن قتل على ردته، فهو على ظاهر الرواية محجور عليه في ماله بنفس ارتداده، وإن لم يحجر عليه فيه بعد، فلا يجوز له إذا قتل على ردته بيع ولا شراء، ولا يلحقه فيه المدانية، ولا تجوز له فيه المحاباة، وهو ظاهر ما في النكاح الثالث من المدونة، ونص قول سحنون قال: ما أعرف فيه الحجر وردته حجر، ويصير بالردة ممنوعا من ماله، إلا أن يبايعه أحد في ذمته، وكذلك يجوز له إن تزوج يهودية أو نصرانية في ذمته، كما يجوز مبايعة المفلس ونكاحه في ذمته، قال: وإذا باع المرتد شيئا نظر فيه الإمام، فإن رأى بيع غبطة أمضاه، وإن كان فيه محاباة أوقفه، فإن تاب كان عليه، وإن قتل أبطله، وكذلك إن تزوج وبنى، فإن قتل فلا شيء لها، وإن تاب فلها الصداق، والمعلوم من مذهب ابن القاسم المنصوص له في كتاب ابن المواز، وكتاب ابن سحنون وغيرهما أن ما باع المرتد أو اشترى أو أقر به قبل تحجير السلطان لازم له ما خلا نكاحه، وإن أقام سنين يبيع ويشتري قبل أن يعلم بردته، وما أقر به، أو بايع بعد الحجر عليه لم يدخل في ماله إلا أن يتوب، وروي مثل ذلك عن مالك، وعلى هذا يأتي ما في كتاب ابن المواز من أن المرتد إذا تزوج في ردته، ودخل بها فلها الصداق في ماله إن كان صداق مثلها؛ لأن المعنى في ذلك إذا كان ذلك قبل أن يعلم الإمام بارتداده، فيحبسه للقتل، ويحجر عليه؛ إذ لا اختلاف في أنه ليس لها صداق في ماله إن قتل على ردته أو مات فيها إذا كان تزوجه بعد أن حجر عليه فيه وإن دخل، وإنما الاختلاف إذا تزوج قبل أن يحجر عليه ودخل، فقتل على ردته أو مات فيها، فقيل: إن لها صداقها، إلا أن يكون أكثر من صداق مثلها، وهو المنصوص عليه لابن القاسم، وقيل: إنه لا صداق لها، وهو مذهب سحنون، وظاهر هذه الرواية، وقد ذكرت لأصبغ فردها بالتأويل إلى المعلوم من مذهبه، فقال: ذلك إذا تزوج بعد الحجر عليه، وهو تأويل محتمل ينتفي به الخلاف عن ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة إذا أخفى الرجل دينا فأتى تائبا منه:

قال ابن القاسم: إذا أخفى الرجل دينا، فأتى تائبا منه قبلت منه توبته ولم يقتل، قال: وإن أخذ على دين أخفاه مثل الزندقة أو اليهودية أو النصرانية، وكان دينا يخفيه قتل ولم يستتب؛ لأن توبته لا تعرف، وإن أنكر ما شهد عليه به لم يقبل إنكاره، وقتل ولم يستتب، وإن ادعى التوبة أيضا لم تقبل توبته.
قال محمد بن رشد: هذا أمر متفق عليه في المذهب، أن المرتد المظهر الكفر يستتاب، وأن الزنديق والذي يسر اليهودية أو النصرانية أو ملة من الملل سوى ملة الإسلام يقتل ولا يستتاب، والشافعي يرى أنهما يستتابان جميعا الذي يعلن الكفر والذي يسره إذا ظهر عليه وحضرته البينة فيه، وعبد العزيز بن أبي سلمة يرى أنهما يقتلان جميعا، ولا يستتاب واحد منهما على ظاهر قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب.

.مسألة من غير دينه فاقتلوه:

ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار:
وحدثني ابن القاسم، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي: أن أبا بكر الصديق استتاب امرأة من بني فزارة، من قيس يقال لها: أم قرفة، ارتدت عن الإسلام، فلم تتب فضرب عنقها.
قال محمد بن رشد: إنما جاء هذا الحديث حجة على أهل العراق في قولهم المرأة: إن ارتدت تحبس وتكره على الإسلام ولا تقتل. وروي ذلك عن ابن العباس والحسن، وقالوا: إنها إن أسلمت لم تسترق كالرجل يرتد ثم يتوب. وقال الحسن: إن أسلمت كانت أمة للمسلمين، مثل الحرة تسبى.
والصحيح أنها تقتل إن لم تسلم؛ لأن قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من غير دينه فاقتلوه» عام يتناول الرجال والنساء، وقد روي عنه عَلَيْهِ السَّلَامُ الاستتابة في امرأة ارتدت، واستدل أهل العراق لما ذهبوا إليه من أن المرتدة لا تقتل بنهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن النساء من كفار أهل الحرب، وهذا لا حجة فيه؛ لأنهن إنما لم يقتلن لأجل أنهن لا يقاتلن، بدليل قوله في الحديث؛ إذ وقف على المرأة المقتولة ما كانت هذه تقاتل، فالمرأة إذا لم تقاتل لم تقتل، وإذا قاتلت قتلت، وكذلك الرجل أيضا إذا علم أنه ممن لا يقاتل كالرهبان وشبههم لم يقتل، فلا فرق في هذا بين الرجال والنساء إلا أن الرجل محمول على أنه يقاتل حتى يعلم أنه ممن لا يقاتل والمرأة، محمولة على أنها لا تقاتل حتى يعلم أنها تقاتل، وقد ساوى الله عز وجل في القتل بين الرجال والنساء في الزنا مع الإحصان، فلذلك يجب أن يساوي بينهم في الكفر الذي هو أعظم من الزنا وأغلظ منه، وقد مضى الكلام في سبي ذراري المرتدين وأموالهم إذا بانوا بدارهم، في سماع سحنون، من كتاب الجهاد، فلا معنى لإعادته.

.مسألة قال لا أتوضأ وأنا أصلي:

وفي كتاب حمل صبيا قال ابن القاسم: قال مالك: من قال لا يصلي استتيب، فإما صلى، وإما قتل، ومن قال: لا أتوضأ وأنا أصلي، فإما أن يتوضأ وإما قتل، ومن قال: لا أؤدي زكاة مالي، فإنه يؤخذ منه على ما أحب أو كره، ومن قال: لا أحج فأبعده الله، ولا يجبر على الحج.

.مسألة من جحد فرض الوضوء والصلاة والزكاة أو الصيام أو الحج:

ومن مسائل نوازل سئل عنه أصبغ قال أصبغ في الذي يدع الصلاة فيقال له: صل، فيقول: لا أصلي فيقال له: أتجحد؟ أنها ليست عليك مفروضة من الله؟ فيقول: لست بجاحد لها، وأعلم أنها الحق غير أني لا أصلي، قال: أرى أن يقتل إذا قال: لا أصلي، وإن كان غير جاحد لها، فتركه إياها أو إصراره على أنه لا يصلي جحد لها؛ فإن أقام على قوله: لا أصلي قتل، وإن زعم أنه غير جاحد لها، وبلغني عن ابن شهاب أنه قال: إن فات وقتها، ولم يصل ضربت عنقه، وبلغني عن عبد الملك بن عبد العزيز أيضا أنه كان يقول: إذا قال: لا أصلي قتل كما قال أصبغ، قال أصبغ: وأما الزكاة فإن جحدها أيضا قتل، وإن أقر أنها حق عليه، وقال: لا أؤديها أخذت منه إن شاء أو أبى، ولا يقتل بقوله: لا أؤدي؛ لأنه يقدر على أخذها منه صاغرا، وإن دفع من يريد أخذها منه، فإن كان ليس به قوة يدفع بها مثل أن يدفع هو بنفسه ضرب، وأخذت منه كارها، إلا أن يدفع في جماعة، ويمنع بقوة، فإنه يجاهد ويقتل، ومن دفع معه كما فعل أبو بكر رَحِمَهُ اللَّهُ حين منع الزكاة، فقال: والله، لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، قال: ولو جحد الوضوء والغسل من الجنابة قتل، وإن لم يجحد الوضوء والغسل من الجنابة إلا أنه قال: أنا أؤمن بالوضوء والغسل، ولا أتوضأ ولا أغتسل قتل أيضا؛ لأن تركه ذلك جحد له، وكذلك لو قال: لا أصوم رمضان، وأصر على ذلك قتل، وإن لم يجحد؛ لأن تركه الصوم الذي فرضه الله عليه جحد له.
قيل: فإن قال: لا أوتر قال: أؤدبه على صلاة الوتر أدبا موجعا، وأضربه حتى يصلي الوتر، قيل: فركعتا الفجر؟ قال: لا، ركعتا الفجر هما أخف شأنا من الوتر، الوتر سنة.
قال محمد بن رشد: أما من جحد فرض الوضوء والصلاة والزكاة أو الصيام أو الحج، أو استحل شرب الخمر، أو الزنا، أو غصب الأموال، أو جحد سورة، أو آية من القرآن، أو ما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنه كافر، وإن قال: إنه مؤمن فيعلم أنه في ذلك كاذب للإجماع المنعقد على أن ذلك لا يكون إلا من كافر، وإن لم يكن شيء من ذلك في نفسه كفرا على الحقيقة، وأما من أقر بفرض الصلاة والصيام والوضوء، وأبى من فعل ذلك، وهو قادر عليه، فقول مالك في هذه الرواية: إنه يستتاب في ذلك كله، فإن أبى في شيء منه أن يفعله قتل، يدل على أنه يقتل على الكفر، فيكون ماله لجماعة المسلمين كالمرتد إذا فتل على ردته؛ لأنه وإن لم يكن نفس الترك لشيء من ذلك كله كفرا على الحقيقة، فإنه يدل على الكفر، ولا يصدق من قال في شيء من ذلك كله: إنه مؤمن بوجوبه عليه إذا أبى أن يفعله، فحكمه حكم الزنديق الذي يقتل على الكفر، ولا يصدق فيما يدعيه من الإيمان.
وإلى هذا ذهب أصبغ في قوله: فإصراره على أن لا يصلي جحد لها، وقد قيل: إنه يقتل على ذنب من الذنوب لا على الكفر، فيرثه ورثته من المسلمين، وهو أظهر الأقوال في هذه المسألة، ومن أهل العلم من رأى نفس الترك للصلاة عمدا كفرا على ظاهر قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من ترك الصلاة فقد كفر» ومن ترك الصلاة فقد حبط عمله، وهو ظاهر قول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وذهب ابن حبيب إلى أن من ترك الصلاة وهو متعمد لتركها، أو مضيعا لها، أو متهاونا بها، فهو كافر على ظواهر الآثار الواردة في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقاله أيضا في أخوات الصلاة من الزكاة والصيام، واحتج بالمساواة بينها وبينهن بقول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة وبين الزكاة، وهو قول شاذ بعيد في النظر خطأ عند أهل التحصيل من العلماء، لأن الدلالة تمنع من حمل الأحاديث على ظاهرها، فالقياس عليها لا يصح، وما قاله أصبغ من التفرقة فيمن منع زكاة ماله بين أن يكون وحده، وبين أن يكون في جماعة، فيمنع من ذلك، ويدفع عنه بقوة صحيح مفسر لقول مالك، لا اختلاف فيه.
وإنما لم يستتب من أبى أن يؤدي زكاة ماله طوعا؛ لأن الواجب أن تؤخذ منه كرها؛ لقول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
واختلف إذا أخذت منه كرها هل تجزيه أم لا؟ فقيل: إنها لا تجزيه؛ لأنه لا نية له في أدائها، والأعمال لا تصح إلا بالنيات، وقيل: إنها تجزئه لأنها متعينة في المال، وهو الصحيح على مذهب مالك في إيجابها على الصبي والمجنون، وإنما لم يستتب من قال: لا أحج من أجل أن الحج ليس له وقت معلوم، فإذا قال: لا أحج وأبى الحج في هذا العام، فله أن يحج فيما بعده، وكذلك في الذي بعده، وذلك بخلاف الصلاة الذي ينتظر به فيها آخر وقتها إذا أبى من فعلها، فإن مضى الوقت، ولم يصل قتل.
والوقت في ذلك طلوع الشمس للصبح، وغروب الشمس للظهر والعصر، وطلوع الفجر للمغرب والعشاء.
وقول أصبغ في ركعتي الوتر والفجر: إنهما بخلاف الوتر؛ لأن الوتر سنة يدل على أن ركعتي الفجر عنده ليستا بسنة، وأما ركعتا الفجر فيستحب العمل بها خلاف رواية ابن القاسم عنه في رسم مساجد القبائل، من كتاب الصلاة المذكور، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه، وما يدل عليه ما في المدونة من أنهما سنة، وأصل هذا الاختلاف اختلافهم في المعنى الذي من أجله تسمى النافلة سنة، إن كان لكونها مقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، أو لكون الاجتماع لها والجماعة مشروعين فيها، وبالله التوفيق.

.مسألة نصرانى يقول للمسلمين ديننا خير من دينكم:

ومن كتاب شهد على شهادة ميت:
وعن رجل من النصارى يقول للمسلمين ديننا خير من دينكم، وإنما دينكم دين الحمير، ونحو هذا من التعريض القبيح، ومثل قول النصراني للمؤذنين إذا قالوا: أشهد أن محمدا رسول الله، كذلك يعطيكم الله، وإذا قال: شتموا النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ماذا يجب عليهم في ذلك كله؟ وكيف لو أن رجلا من المسلمين سمع بعض النصارى أو اليهود يشتمون النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بشتم يجب عليهم فيه القتل، فغاظ ذلك المسلم فقتله ماذا عليه في ذلك؟
قال ابن القاسم: أما إذا قال: ديننا خير من دينكم، وما قال للمؤذنين، فأرى أن يعاقبوا فيها عقوبة موجعة، ولا يقصر فيها على السجن الطويل، وأما شتمه النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إذا شتمه شتما يعرف، قال: قال مالك: أرى أن نضرب عنقه، قال ذلك غير مرة إلا أن يسلم، ولم يقل لي يستتاب، إلا أن محمل قوله عندي إن أسلم طائعا من عند نفسه، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
قال ابن القاسم: ولقد سألنا مالكا عن نصراني كان بمصر، فشهد عليه أنه قال: مسكين محمد يخبركم أنه في الجنة، هو الآن في الجنة، ما له لم ينفع عن نفسه إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه لو كانوا قتلوه استراح الناس منه، فسألناه عن ذلك، وكتب إلينا بها من مصر، ونحن بالمدينة، فلما قرأته عليه صمت، وقال: حتى أنظر فيها، فلما كان بعد ذلك المجلس، قال لنا: أين كتاب الرجل؟ فقلنا له: هو في المنزل، ونحن نحفظ المسألة، فقال: لقد كنت حين قرأتم علي هممت ألا أتكلم فيه بشيء، ثم تفكرت في ذلك، فإذا أنا أرى أن لا ينبغي الصمت عنه اكتبوا إليه ضرب عنقه، قال ابن القاسم: قال مالك: وإذا شتم المسلم النبي ضربت عنقه، ولم يستتب، قال: وقال عيسى في الذي أغاظ قتل النصراني الذي شتم النبي: إنه إن كان شتمه شتما يجب فيه قتل، وثبت ذلك ببينة، فلا شيء عليه، وإن لم يثبت ذلك أو شتمه شتما، لا يجب عليه القتل، فأرى عليه ديته، ويضرب مائة ويسجن عاما.
قال الإمام القاضي: هذا كله بين لا إشكال فيه؛ إذ لا اختلاف في أن من سب النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، أو عابه، أو نقصه بشيء من الأشياء؛ يقتل، ولا يستتاب مسلما كان أو كافرا أو ذميا، إلا أن يبدو الذمي فيسلم قبل أن يقتل من غير أن يستتاب، فلا يقتل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: من قال: إن إزار النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وسخ أراد به عيبه قتل، وروى عنه فيمن عير رجلا بالفقر، فقال له: تعيرني بالفقر، وقد رعى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ الغنم؛ أنه يؤدب؛ لأنه عرض بذكر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في غير موضعه.
وروى أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل: انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا، فقال كاتب له: قد كان أبو النبي كافرا، قال له: جعلتَ هذا مثلا؛ فعزله وقال: لا تكتب لي أبدا، وهذا لأن الله تعالى أمر بتعزيزه وتوقيره، فمن ضرب به المثل في مثل هذا، فقد خالف حد الله فيما أمر به من تعزيزه وتوقيره، فوجب عليه في ذلك الأدب، وكذلك حكم سائر الأنبياء فيمن شتم أحدا منهم أو نقصه؛ لقوله عز وجل: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وكذلك حكم من شتم ملكا من الملائكة.
وحكم ميراث من قتل من المسلمين على سب النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، أو أحد من الملائكة، أو النبيين حكم ميراث الزنديق يكون لورثته على قول مالك في رواية ابن القاسم عنه، وهو مذهب ابن القاسم، ولجماعة المسلمين في قوله على رواية ابن نافع عنه، وهو اختيار ابن عبد الحكم، وكذلك من شتم الله عز وجل يقتل بلا استتابة كالزنديق، إلا أن يكون إنما افترى عليه بارتداده إلى دين دان به، فإن أظهره استتيب، وإن لم يظهره قتل دون استتابة.
ومن سبه عز وجل من المعاهدين بغير ما يحله إياه، ويدين به، ويؤخذ منه الجزية على أن يقر عليه، فإنه يقتل ولا يستتاب، لكنه إن أسلم قبل أن يقتل؛ لم يقتل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

.مسألة قال إن الله لم يكلم موسى:

ومن كتاب جاع فباع امرأته:
قال ابن القاسم: أرى من قال: إن الله لم يكلم موسى أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، أراه من الحق الواجب وهو الذي أدين الله عليه.
قال محمد بن رشد: أما من قال: إن الله عز وجل لم يكلم موسى، فلا إشكال ولا اختلاف في أنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه مكذب لما نص الله تعالى عليه في كتابه من تكليمه إياه حقيقة لا مجازا بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]؛ لأن المجاز لا يؤكد بالمصدر، وأما من قال من أهل الاعتزال والزيغ والضلال: إنه كلمه بكلام خلقه واخترعه في حين تكليمه إياه، ونفى أن يكون كلام الله تعالى صفة من صفات ذاته، وزعم أنه خلق من خلقه، وأن القرآن مخلوق، وأن أسماءه وصفاته محدثة مخلوقة، وأن الصفة هو الوصف، فنفوا أن يكون لله تعالى في أزله كلام أو علم أو قدرة أو إرادة، فأهل العلم في تكفيرهم على فرقتين، منهم من يكفرهم بذلك، وهم الكافة، ومنهم من لا يكفرهم بذلك؛ لأنهم إنما فروا من الكفر؛ إذ ظنوا بإضلال الله لهم أن من أثبت لله عز وجل حياة وكلاما وعلما وإرادة وسمعا وبصرا فقد شبهه بخلقه؛ لأن هذه صفات المخلوقين المحدثين، ومالك ممن اختلف قوله في تكفيرهم حسبما مضى من قوله في أول سماع ابن القاسم من الأقضية الثالث، من سماع أشهب.
والأدلة على إثبات صفات ذاته عز وجل، وأنها قديمة غير مخلوقة ولا محدثة كثيرة ظاهرة بينة لمن شرح الله صدره وهداه، ولم يرد إضلاله وإغواءه، وقد نص على ذلك المتكلمون في كتبهم، وبينوا صحة ما عليه أهل السنة والجماعة من ذلك، فلا معنى للتطويل والإكثار في جلب الأدلة على ما انعقد عليه الإجماع.